وهذه أمثلة من النصوص أو الاستنباطات، التي استدل بها
المرجئة على أن ترك العمل مطلقاً لا ينافي الإيمان، وجواب
أهل السنة والجماعة عنها:
1- حديث جارية
معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه الذي فيه: {
كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة. .
فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعظّم ذلك عليّ.
قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟
قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟
قالت: في السماء.
قال: من أنا؟
قالت: أنت رسول الله.
قال: اعتقها فإنها مؤمنة}
ووجه الاستدلال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد لها بالإيمان دون أن يشترط العمل، فالإيمان يثبت بمجرد الإقرار، فهو قول فقط وليس قولاً وعملاً.
* والجواب عن ذلك:
أن مورد الحديث وموضعه، هو بيان الحكم الدنيوي المترتب على الإيمان، وليس بيان حقيقة الإيمان الشرعية، المبينة في نحو قول الله تعالى: ((
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحجرات:15]
وفرق كبير بين أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد: إنه مؤمن؛ بمعنى: أنه داخل في أحكام المؤمنين الظاهرة؛ من المناكحة، والتوارث، وحل الذبيحة، والصلاة على الجنازة، والإجزاء في العتق، ونحو ذلك، وبين أن يقول عن أحد: إنه مؤمن، في موضع الشهادة له بتحقيق الإيمان، واستكمال صفات المؤمنين، ولهذا رادَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سعد بن أبي وقاص حين قال له: {
يا رسول الله! مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً. ثلاث مرات } .
ومن المعلوم أن هذه الجارية ليست معدودة في السابقين، ولا من أفاضل الصحابة المشهود لهم بالإيمان، بل غاية ما دل عليه الحديث أنها مسلمة لا أكثر، وهو الحكم الظاهر الذي يستحقه كل من أظهر الإيمان.
وقد دلت على هذا المعنى الروايات والأحاديث الأخرى في هذه الجارية، أو جارية مثلها، فقد جاء الحديث عن
أبي هريرة، و
الشريد بن سويد الثقفي، ورجل من الأنصار مبهم،
وفي كل منها يسأله السائل قائلاً إن علي -أو على أمي- عتق رقبة مؤمنة، ويستفتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهذه الجارية مؤمنة فيعتقها، أم أنها لا تجزئ؟ فيستجوبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يقول: اعتقها فإنها مؤمنة، أو اعتقها فقط، أي: أنها تجزئ في العتق.
ولهذا قال الإمام
أحمد-رضي الله عنه- في جواب هذا الحديث: ''ليس كل أحد يقول فيه: فإنها مؤمنة، يقولون: اعتقها '' .
قال: ''و
مالك سمع من هذا الشيخ
هلال بن علي لا يقول: فإنها مؤمنة.
وقد قال بعضهم: فإنها مؤمنة، فهي حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة. هذا معناه ''
.
وقد علق الشيخ المحدث
الألباني على كلام الإمام
أحمد هذا، بأن الزيادة صحيحة فلا وجه للتردد فيها.
وهذا صحيح، لكن مراد الإمام
أحمد ليس تضعيف الرواية، وإنما هو إثبات خطأ
المرجئة في الاستدلال بالحديث من جهتين:
أ- أن بعض الروايات ليس فيها القول بأنها مؤمنة، وهي رواية
مالك -وهو من هو في الحفظ والإتقان- وقد حصل بها الجواب كاملاً، فالسائل سأل: أتجزئ هذه الجارية في العتق المشروط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة فأجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد استجوابها بقوله: اعتقها -أي: هي مجزئة- فالموضوع لا علاقة له ببيان حقيقة الإيمان الشرعي أصلاً .
ب- أن بعض الروايات ورد فيها القول بأنها مؤمنة:
ومعنى ذلك أنها لما كانت مقرة بما سألها عنه فهي تأخذ حكم المؤمنين وهو العتق؛ لأن شرط الحكم يتحقق فيها وهو هذا الإيمان الذي يكفي لإجراء الأحكام الظاهرة على من جاء به، دون أن يعني ذلك أنه محقق للإيمان الشرعي ظاهراً وباطناً.
وقال شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية: ''وهذا لا حجة فيه؛ لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا، لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة؛ فإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، هم في الظاهر مؤمنون؛ يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''
.
وقال: ''والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، لم يكن على الناس ألاّ يعتقوا إلا من يعلمون أن الإيمان في قلبه؛ فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه، وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلاً يظهر الإيمان جاز لهم عتقه.
وصاحب الجارية لما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر، الذي يفرق به بين المسلم والكافر.
وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق
إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقاً، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقاً، وهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الخلق، والله يقول له:
((
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ))[التوبة:101].
فأولئك إنما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلّى عليها، ولم يكن منهياً عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر ''
.
ثم قال: ''والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذي علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن
سعداً لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: {
أو مسلم؟ "}.
وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة.
فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة، التي يحكم فيها الناس
في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لا بد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى
الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمناً...، ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء في الرقبة التي تجزئ في الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا هل يجزئ الصغير؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن
أحمد: لا يجزئ عتقه؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لم يؤمن بنفسه، إنما إيمانه تبع لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن في الباطن.
وقيل: بل يجزئ عتقه؛ لأن العتق من الأحكام الظاهرة، وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلى عليه، ولا يصلى إلا على مؤمن؛ فإنه يعتق ''
.
هذا وقد ذكر
الخلال عن الإمام
أحمد رواية أخرى في الجواب عن هذا الحديث هي أنه ''قال يوماً، وذكر عنده هذا الحديث -يعني: حديث الجارية التي أتى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يحتجون به -يعني
المرجئة- وهو حجة عليهم، يقولون: الإيمان قول، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض منها حتى قال: تؤمنين بكذا، تؤمنين بكذا''
.
ولعل هذا الجواب ذكره الإمام عند ذكر الحديث الذي رواه في
المسند عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء، وقال: {
يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها؟
فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: اعتقها }.
ومعنى قول الإمام: إنه حجة عليهم، أن
المرجئة كما هو معلوم تقول: إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، وفي الحديث سألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمور متعددة، فدلَّ على أن الإقرار نفسه يتنوع ويتعدد، فهو متبعض، وكذلك الإيمان كله.
وعلى كلام
المرجئة، كان يكفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسألها: هل أنت مؤمنة؟ فإذا قالت: نعم، قال: اعتقها، أو نحو ذلك من الأمثلة، التي تدل على حصول مجرد الإقرار الذي هو شطر الإيمان عند بعض
المرجئة، وشرط عند آخرين، ومجرد علامة عند أكثر المتأخرين، كما سبق تفصيله .
لكن لما كان الإيمان له أصل وكمال، وظهر منها ما يدل على أن عندها أصل الإيمان، الذي يكفي مثله للدخول في الإسلام، ويتحقق به الحكم المسئول عنه، حكم لها به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا كان هذا القدر من الإيمان يتنوع ويتعدد، فكيف باستكمال حقيقة الإيمان، الذي لم يقع عنه هنا سؤال ولا له جواب في الحديث، ومعرفته تقتضي أن تمتحن في جميع شعب الإيمان الواجبة، وأن يكون معلوماً أن باطنها في ذلك كظاهرها، وهذا هو المحال، كما سبق في كلام
شَيْخ الإِسْلامِ.
فظهر بذلك أن استدلال
المرجئة به على أن حقيقة الإيمان هي مجرد التصديق والإقرار باطل، وأن الحديث حجة عليهم لا لهم.
وهذا الحديث وسائر الأحاديث المماثلة دليل على استجواب مجهول الحال؛ ليعلم أهو داخل في أحكام الإسلام ويشمله اسم الإيمان أم هو كافر.
ومعلوم لدى الفقهاء جميعاً -السني منهم والمرجئ- أن من أتى بمبدأ الإسلام، وهو الإقرار بالشهادتين، فقد أعلن دخوله في الإسلام والتزامه بأحكامه، وهذا القدر الذي جاء به إنما هو ببعض الواجب عليه؛ ولهذا لا بد له من الإتيان بالإيمان الواجب، أي: عمل سائر شعب الإيمان الواجبة، وأهمها الأركان الأربعة، ويجبر على ذلك عند الجميع، حتى إنه لو امتنع عن الصلاة مثلاً، وأصر فإنه يقتل، إما كفراً على مذهب
السلف، وإما حداً على مذهب
المرجئة، ومن وافقهم من المتأخرين.
والسؤال: لو قدرنا أن تلك الجارية لم تلتزم بلوازم ذلك الإقرار، وأصرت على ترك الصلاة مثلاً، فهل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعها على ذلك الإقرار الأول ويسميها مؤمنة؟
إن هذا هو موضع النزاع في قضية إثبات الإيمان لتارك العمل، وليس هو الكلام في الحكم بإسلام من ظهر منه ما يدل على إسلامه.
نعم، هذا الحديث ونحوه، يصلح حجة على
الخوارج القدماء والمعاصرين، الذين يشترطون للحكم لأحد بالإسلام شروطاً خاصة، هي في حقيقتها شروط لقبول توبة المرتد وإسلامه، لا للحكم بإسلام الكافر الأصلي، فضلاً عن الحكم لمن يظهر الإسلام في دار الإسلام، ولم يظهر منه ناقض لإسلامه، وذلك مبني على نظرتهم في أن الأصل في الناس ابتداءً هو الكفر، إلا من علموا هم إسلامه بيقين!!
بقي أن يقال:
إنه إن كان في الحديث شبهة
للمرجئة الفقهاء، فلا شبهة فيه قط
للمرجئة الغلاة من
الجهمية و
الأشعرية و
الماتريدية، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد تصديق القلب، وإن المصدق بقلبه ناج عند الله!!
بل هو حجة عليهم؛ فإن مجرد ذلك لا يترتب عليه أي حكم من أحكام الإيمان، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو أن
الكرامية استدلت به على مذهبها في أن الإيمان هو النطق، لكان أقرب منهم، فكيف ونحن وهم متفقون على بطلان مذهب
الكرامية، فظهر أن مذهبهم أشد بطلاناً منه، لا سيما وأن التصديق في لغة العرب، إنما يطلق على من قال بلسانه: صدقت، أما مجرد انعقاد القلب على صحة أمر ما دون إظهار ذلك باللسان، فلا يسمى في لغة العرب تصديقاً.
2- حديث الجهنميين (أو حديث الشفاعة):
وهو الحديث الوارد في شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، وتحنن الله تعالى عليهم بإخراج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأصرح لفظ استدلت به
المرجئة في إحدى روايات
أبي سعيد الخدري وهي {
...فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السيل...
قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه }.
وهذه إحدى روايات
مسلم للحديث، ولم ترد هذه اللفظة عند
البخاري على كثرة رواياته له عن
أبي سعيد و
أنس و
أبي هريرة، إلا أن الجملة الأخيرة وهي قول أهل الجنة: {
أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه...} الخ، وردت في إحدى رواياته عن
عطاء بن يسار عن
أبي سعيد أيضاً
.
أما الإمام
أحمد فقد رواه مختصراً ومطولاً، عن
أبي هريرة و
أنس و
أبي سعيد و
جابر و
حذيفة،
ولم ترد هذه اللفظة عنده إلا في رواية
عطاء بن يسار عن
أبي سعيد أيضاً.
ووجه الاستدلال منه:
أنه أخرج من النار قوماً جاءوا بتصديق مجرد، لا عمل معه؛ فدل ذلك على أن العمل ليس ركناً في الإيمان كما يقول
أهل السنة والجماعة؛ إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بانتفاء الحقيقة، وهؤلاء حقيقة الإيمان ثابتة لهم. بل قال قائل منهم: إن قلبه طافح بالإيمان.
والجواب على هذا الاستدلال يمكن من أوجه كثيرة نوجزها بالآتي فنقول:
أ- إن هذا الحديث من الأدلة على
المرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه، وهم يؤولونه ولا يأخذون به في ذلك، فمن التحكم أن يردوا أول الحديث ويستدلوا بآخره، مع أن هذا الذي في آخره ليس إلا في رواية واحدة من رواياته.
فـ
المرجئة -كما سبق بيانه- تقول: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وإن الإنسان يكون كامل الإيمان، وإن لم يعمل خيراً قط، والحديث يرد عليهم في ذلك أصرح رد:
قال الإمام
البخاري رحمه الله: ''باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال''
.
وذكر سنده إلى
أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: {
يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا - أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبَّة في جانب السيل}
وقال أيضاً: ''باب زيادة الإيمان ونقصانه... إلخ ''.
...عن
أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {
يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير}.
ثم ذكر أن في رواية أخرى: {
من إيمان} بدل {
من خير}
وبهذا - أيضاً - استدل الإمام
أبو بكر بن خزيمة على من يزعمون '' أن الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح، الذي هو كسب الأبدان، فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب، الذي هو التصديق، وإيمان اللسان الذي هو الإقرار''
.
ب- إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة، بل هي مصرحة بأن الجهنميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين، فإذا ضممنا هذه الروايات إلى النصوص الصريحة في تكفير تارك الصلاة، لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها، فوجب أن تفهم كما تفهم الألفاظ المعارضة للأدلة الصحيحة الصريحة، مما هو معلوم في أبواب التعارض والترجيح والجمع.
أولاً: من جهة الترجيح:
أن يقال: إن الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، أرجح من تلك؛ من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الإيمان قول وعمل.
فمثلاً رواية
أبي هريرة عند
البخاري هذا نصها:
{
حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنتب الحبَّفي حميل السيل}
فهذه رواية متفق عليها بين الشيخين، وفي رواية
البخاري في الأذان، يشترك
سعيد بن المسيب سيد التابعين في روايتها مع
عطاء بن يزيد، ومن الاتفاق الحسن أن التابعي الراوي عن
أبي هريرة، وهو
عطاء بن يزيد، قال بعد تمام الحديث:
{
وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه -ورواية مسلم لا يرد عليه من حديثه شيئاً- حتى انتهى إلى قوله -آخر الحديث- هذا لك ومثله معه. قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هذا لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: حفظت:مثله معه.}
وفي رواية
مسلم و
البخاري في التوحيد: {
حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل: ومثله معه، قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: لك ذلك ومثله معه، قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله}.
فهذا مما يرجح هذه الرواية؛ لاتفاق كلا الصحابيين عليها، وتصريح التابعي بأن
أبا سعيد لم يغير، أو لم يرد على
أبي هريرة إلا ما ذكر، فلديه زيادة علم ترجح روايته على رواية
عطاء بن يسار عن
أبي سعيد منفرداً، لا سيما وقد شاركه فيها
سعيد بن المسيب، كما في رواية
البخاري في كتاب الأذان.
ومما يقويه أن رواية
عطاء بن يسار نفسه عند
البخاري، لم يرد فيها قوله: " لم يعملوا خيراً قط "، وهذا لفظها:
{
...فما أنتم بأشهد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذٍ للجبار، إذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))[النساء:40]. فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبَّة في حميل السيل...}.
ثم يذكر ما سبق من قول أهل الجنة: {
هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه...}.
فلم يرد فيه ما يدل على عدم العمل إلا قول أهل الجنة، وهم إنما يقولون حسب ظاهر ما يعملون كما جاء فيه: {
فيخرجون من عرفوا} فإن كانت المعرفة بحسب علمهم بهم في الدنيا، فلا يخفى أن من الناس من لا يعرف المؤمنون أن فيه خيراً، وإن كانت بحسب أثر السجود -كما في الرواية الأخرى- فلا يبعد أن يكون في بعض المصلين من إساءة الصلاة، والإهمال الشديد في أدائها، ما لا يحصل له معه علامة ظاهرة للمؤمنين. والله أعلم.
أما سائر روايات الحديث عن الصحابة الآخرين، وعن
أبي سعيد في غير تلك الرواية، فلا ذكر فيها لنفي العمل، بل هي كما رأينا مصرحة بأنهم من أهل الصلاة.
وعليه فإن لم نقل: إن تلك الرواية غير محفوظة، نقول: لا بد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى.
ومن ذلك: ما قاله الإمام
أبو بكر بن خزيمة رحمه الله:
قال: ''هذه اللفظة: {
لم يعملوا خيراً قط} من الجنس الذي تقول العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به '' .
قال: '' وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي ''
.
أقول: وهذا التوجيه يشهد له حديث المسيء صلاته، حين قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
ارجع فصل فإنك لم تصل }، فنفى صلاته مع وقوعها، والمراد نفي صحة أدائها، وبه استدل
أبو عبيد -رحمه الله- في مثل هذا.
وكذلك حديث قاتل المائة نفس الذي جاء فيه: {
أنه لم يعمل خيراً قط} لأنه توجه تلقاء الأرض الصالحة، فمات قبل أن يصلها، فرأت ملائكة العذاب أنه لم يعمل خيراً قط بعد؛ إذ لم يزد على أن شرع في سبيل التوبة؛ ولهذا حكم الله تعالى بينها وبين ملائكة الرحمة، بقياس الأرض وإلحاقه بأقرب الدارين، ثم قبض هذه وباعد تلك؛ رحمة منه وإلا كان يهلك .
وفي حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد وفاته خوفاً من الله: {
قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه... } .
و
مسلم: {
قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فأحرقوه...}
وقد فسرتها الرواية التي بعدها: {
أسرف رجل على نفسه -أو- أسرف عبد على نفسه } .
ومما يؤيد ذلك أنه قد ورد في بعض روايات حديث الجهنميين هذا، أن هذا الرجل منهم؛ حيث ذكرت أنه {
آخر أهل النار خروجاً منها}
.
ثانياً: من جهة الجمع:
وقبل بيان ذلك نقول: إن الجمع مقتضاه صحة الاستدلال. فهل هذا الحديث يصلح لما استدلت به
المرجئة بإطلاق؛ أي دعوى أن الإيمان تصديق مجرد؟
الجواب:
أما
المرجئة الغلاة؛ أي: القائلون بأن الإيمان محله كله القلب، وهو التصديق القلبي دون سائر أعمال القلب والجوارح، كما هو مذهب
الأشعرية و
الماتريدية والظاهرة عموماً، والقائلين إن من صدق بقلبه نجا عند الله، وإن لم يشهد بلسانه -كما نقلناه عن بعضهم- فلا حجة لهم فيه بحال، إذ روايات الحديث -فضلاً عن الأصل القطعي الثابت- دالة على أن الجهنميين هم من أهل شهادة أن لا إله إلا الله، فالإجماع قائم على أنه لا يدخل الجنة كافر قط ولا شفاعة له بحال، وعلى أن من امتنع عن شهادة أن لا إله إلا الله ليس بمؤمن؛ لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة، كما قد سبق نقله.
فمن الخطأ البين استدلال
أبي حامد الغزالي بقوله في الحديث: {
من كان في قلبه مثقال ذرة } على أن من قدر على الشهادة فأخرها فمات، فيحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فيكون غير مخلد في النار.
فإن مثل هذا الاحتمال لا يعارض الإجماع، وقياسه على الممتنع عن الصلاة فاسد من وجوه كثيرة؛ منها: أن الشهادة أعظم من الصلاة؛ إذ لا تصح الصلاة ولا غيرها بدونها، ومنها أن الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة.
وقد أوردنا رواية
أنس التي فيها: {
يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير...الحديث }. فقول: لا إله إلا الله قيد لا بد منه، ولا يصح أن يقال: إن عموم من لم يعملوا خيراً قط يشمل هذا.
وأما قول بعضهم: إن ''المراد بالقول هنا القول النفسي ''
.
فمن التأويل الفاسد؛ إذ لا يصح حمل القول على القول النفسي، إلا إذا قيد ذلك، أما إذا أطلق فهو ممتنع عند جميع العقلاء.
إذا تبين هذا لم يبق في هذه الرواية حجة، إلا
للمرجئة الفقهاء القائلين: إن الإيمان ركنان -القول والإقرار فقط- ولبعض العلماء الذين يرون أن تارك الصلاة لا يخلد في النار؛ فهو إذن ليس بكافر الكفر المخرج من الملة.
وعليه ينحصر النزاع في المسألة مع هؤلاء، ويتحرر موضع الخلاف، بأنه رجل شهد شهادة الحق، ولم يعمل خيراً قط، فهل يكون من المؤمنين ويدخل الجنة؟
إن أصول
أهل السنة والجماعة تنفي هذا -وإن تردد فيه بعض علمائهم المتأخرين-
فإن لم نرد تلك الرواية بإطلاق، ونستدل بالإجماع الثابت على تكفير تارك الصلاة، فالجمع بين هذه الرواية وتلك الأصول ممكن، بأن يقال:
إن هذه الروايات تدل على حالة غيبية مخصوصة، لا تعارض الأصل الثابت، بل غاية ما في الدليل الصحيح المعارض لأصل كلي، أن يكون مخصصاً لعمومه.
وهذه الرواية نفسها تدل على ذلك؛ ألا تراه يقول في لفظ
مسلم: {
يقولون: ربنا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا } فيأذن الله لهم أن يخرجوهم حتى إذا انتهوا، وقالوا له تعالى: {
ربنا لم نذر فيها خيراً } أي: صاحب خير، يأتي علام الغيوب سبحانه، فيخرج أقواماً من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيماناً، ولا يحكم لهم به، أو لم تكن فيهم علامة السجود التي يعرفهم بها إخوانهم أهل الجنة المؤمنون.
ويقول تعالى كما في رواية
جابر في
المسند: {
أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي. قال: فيخرج أضعاف ما أخرجه...}.
فإذا كانت هذه حالة غيبية مخصوصة لا ندركها لا في الدنيا ولا في الآخرة، فنحن نكلها إلى علاّم الغيوب، ولا نعارض بها ما ندركه ونعلمه من الأدلة البينة على قتل الممتنع عن الصلاة كفراً، وإجراء أحكام المرتد عليه؛ فإن هذا مما قام دليله، وأمرنا بتنفيذه، ولم نؤمر بشق قلوب الناس ومعرفة ما إذا كان يحتمل أن يكون من الجهنميين أم لا؟
ولو أننا تركنا إقامة الأحكام الظاهرة واعتقاد مدلول الأدلة القطعية؛ لأجل احتمالات أو حالات خاصة، لما ثبت لنا أصل، ولا أقمنا من شرعنا شيئاً.
وهذه الحالة المخصوصة التي دلت عليها هذه الرواية، لا يصعب علينا تكييفها وتعليلها، دون إخلال بالقاعدة والأصل في تركب الإيمان من القول والعمل معاً؛ وذلك بأن نقول: إن هذا الإيمان المركب أصله في القلب وجزؤه الظاهر على الجوارح، وبحسب قوة الباطن تكون قوة الظاهر؛ فقد يقع أن يضعف ذلك الأصل، حتى ينزل عن أدنى مثقال ذرة، وهو الحد الأدنى للإيمان الذي نصت عليه الأحاديث، أعني: الإيمان الذي يعلمه أهل الجنة ويعرفونه.
لكن ذلك لا يقتضي نفي ما هو أقل منه بأضعاف كثيرة مما يعلمه الله، وهذا الإيمان الذي يكون على تلك الدرجة من الضعف، لا يحرك صاحبه على عمل خير قط،
وهذا لا يعارض الأصل الكلي الذي سبق تقريره، وهو أن إيمان القلب مستلزم لإيمان الجوارح، ويتركب منهما معاً حقيقة الإيمان الشرعية؛ لأن هذه حالة عارضة خفية تشبه -حسب المثال السابق- الذي شبهنا فيه تركيب حقيقة الإيمان من القول والعمل، بتركيب الإنسان من الجسد والروح حالة صاحب الغيبوبة العميقة الذي هو ميت حكماً، وإن كان فيه ذلك القدر الضئيل جداً من الحياة، الذي لا يشعر به الناس.
فلا أحد يقول بإخضاع أحكام الأحياء الأصحاء لحكم مثل هذه الحالة الشاذة، أو يعارض بها السنن الثابتة المعلومة في الحياة والأحياء.
ونخلص من هذا إلى أنه مع حفظ عموم دلالة الأصول الكلية، توجد حالات خاصة يكون فيها تارك جنس العمل أو تارك الصلاة غير مخلد في النار، وقد لا يدخلها أصلاً.
وإذا نظرنا إلى أحوال المنتسبين للإسلام لوجدنا أمثلة لمن يمكن أن تنطبق عليهم هذه الحالات الخاصة مثل:
أ- سكان الأطراف البعيدة والجزر النائية، ممن لم يصلهم من الإسلام إلا اسمه، وينتشر فيهم الشرك والجهل بالدين، فهم غافلون عنه أو معرضون عمن تعلمه، ولا يعرفون من أحكامه شيئاً، فهؤلاء لا شك أن فيهم المعذور، وفيهم المؤاخذ.
والمؤاخذون درجات، فقد يخرج بعضهم عن حكم الإسلام بمرة، وقد يكون ممن لا يخلد في النار...وهكذا مما لا يعلم حقيقته إلا علام الغيوب.
ب- بعض شرار الناس آخر الزمان، حين يفشوا الجهل، ويندرس الدين، وعلى هذا جاء حديث
حذيفة مرفوعاً: {
يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صِلة بن زُفر لـحذيفة: فما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار }
فهؤلاء الذين يكونون حينئذٍ -نسأل الله العافية- نقول كما قال
حذيفة: {
إن لا إله إلا الله تنجيهم من النار } إذ لا يعلمون غيرها في ذلك الزمان الذي هو أسوأ زمان.
لكن ليس في مقدور أحد أن يجزم بأنهم لن يدخلوا النار بمرة، أو أنهم من الجهنميين الذين لا يعرفهم المؤمنون، وإنما يعلمهم الله ويرحمهم فينجيهم من النار بعد دخولها، أو هم بين ذلك؛ إذ المرجع في هذا التوقيف، وإن كان غالب الظن أنهم -أو جلهم- إلى الجهنميين أقرب؛ من جهة أن أهل ذلك الزمان هم من شرار الخلق، ومن جهة أنهم ليسوا من أهل الصلاة؛ فلا علامة لسجودهم، ومن هنا لا يعرفهم المؤمنون في النار، ومن جهة أنهم عتقاء الله يدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير...والله أعلم.
وهذا الحديث بقدر ما يدل على نجاة مخصوصة، هو يدل على الأصل والقاعدة، ألا ترى أن التابعي عجب وألح في سؤال الصحابي، وما ذاك إلا لما علمه التابعون، من إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على أن تارك العمل ليس بمؤمن، ولا ينجو في الدنيا من سيف المؤمنين، ولا في الآخرة من عذاب رب العالمين. والله أعلم.
3- العطف:
في أكثر كتبهم يستدل
المرجئة على أن العمل ليس من الإيمان بأنه قد جاء في القرآن، في مواضع كثيرة عطف على الإيمان قالوا:
والمعطوف غير المعطوف عليه، فهذا التغاير والتفريق دليل على ذلك.
وجوابه عند
أهل السنة والجماعة بإيجاز هو:
أن الإيمان يأتي في نصوص الشارع مطلقاً، ويأتي مقروناً بالأعمال؛ فإذا جاء مطلقاً، فإن الأعمال تدخل فيه؛ لأنه حينئذٍ بمعنى الدين، والدين يشمل القول والعمل.
وإذا جاء مقروناً بالأعمال فله عندهم جوابان:
1- أن هذا من قبيل عطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى:
((
مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ))[البقرة:98].
وقوله: ((
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ))[الأحزاب:7].
وقوله: ((
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى))[البقرة:238].
فإن جبريل وميكال من الملائكة، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر أولي العزم من الرسل، والصلاة الوسطى من الصلوات.
وأمثال هذا كثير في لغة العرب، فيعطف الخاص على العام للاهتمام به، وتنبيه المخاطب إلى شرفه أو عدم إغفاله.
2- أن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي لا تنفك عنه بحال، لكن جاء الشارع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملاً لها على الحقيقة شرعاً، فكثر في كلامه عطفها عليه توكيداً لذلك لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمه -العمل- ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أدخل في اسمه وحقيقته، في مواضع الانفراد وقرن بحكمه في مواضع العطف.
وبمراجعة ما سبق قوله عن الحقيقة المركبة يتضح هذا جلياً بإذن الله؛ فإن الشيء المركب من جزأين لا يمتنع عطف أحدهما على الآخر، وإن كان أحدهما إذا أطلق يشملهما اسمه معاً، لا سيما وأن المعطوف عليه هو الأصل الذي إذا أطلق شمل العمل، والمعطوف فرع ولازم له.
فيأتي العطف لبيان وجوب وجودها مجتمعة؛ إذ انتفاء جزئيها انتفاء أحد جزءيها لذات الحقيقة، كما سبق إيضاحه .
ومن هنا يظهر سر تكرار ذلك العطف في القرآن -والله أعلم- فإنه مطابق لإجماع
السلف أن الإيمان قول وعمل - أي: اعتقاد وانقياد -كما سبق- وهو المطابق للأحاديث التي سبق إيرادها في مبحث الحقيقة المركبة، ولا سيما حديث جبريل الذي فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الإسلام، وفسر الإيمان بالجزء الباطن.
ومعلوم قطعاً أن أحدهما لا يغني عن الآخر منفرداً، بل منهما معاً تتكون حقيقة واحدة هي الدين كما جاء في آخره: {
هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } .
وإن كان -الإيمان- أعلى درجة ومرتبة من الإسلام، باعتبار أنه الأصل، كما أن الإحسان أعلى منه، لكن اسمه المطلق يشملهما، والإسلام الذي هو أدنى منه لا يصح إلا به أو بجزء منه.
انتهى المجلد الثاني من الرسالة.